إلى أن قال (المجلسي): واطّلع جمع كثير من المعروفين على ولادته كالسيّدة حكيمة، والقابلة التي كانت جارتهم في سرّ من رأى، وشاهد الإمام عليه السلام جمع كثير منذ ولادته إلى وفاة أبيه، والمعاجز التي تجلّت في نرجس عند ولادته عليه السلام أكثر من أن تعدّ أو تُحصى، وقد ذُكرت في كتاب البحار الأنوار وجلاء العيون.(14)
وقال (في حق اليقين) أيضاً، روى الشيخ الصدوق محمّد بن بابويه بسند صحيح عن أحمد بن إسحاق انّه قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري، وأنا أريد أن أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي مبتدئاً: يا أحمد بن إسحاق انّ الله تبارك وتعالى لم يخلّ الأرض منذ خلق آدم عليه السلام، ولا يخلّيها إلى أن تقوم الساعة من حجة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض.
قال: فقلت له: يا ابن رسول الله فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض عليه السلام مسرعاً فدخل البيت ثم خرج وعلى عاتقه غلام كأنّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين، فقال: يا أحمد بن إسحاق لو لا كرامتك على الله عز وجل وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، انّه سميّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنيّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
يا أحمد بن إسحاق مَثَلَهُ في هذه الأمة مثل الخضر عليه السلام، ومثله مثل ذي القرنين، والله ليغيبنّ غيبة لا ينجو فيها من الهلكة الاّ من ثبّته الله عز وجل على القول بإمامته، ووفقه فيها للدعاء بتعجيل فرجه.
فقال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي فهل من علامة يطمئنّ إليها قلبي؟ فنطق الغلام عليه السلام بلسان عربيّ فصيح، فقال: أنا بقيّة الله في أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق.
فقال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً فرحاً، فلمّا كان من الغد عدت إليه، فقلت له: يا ابن رسول الله لقد عظم سروري بما مننت به عليّ، فما السنّة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟ فقال: طول الغيبة يا أحمد، قلت: يا ابن رسول الله وانّ غيبته لتطول؟
قال: إي وربّي حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، ولا يبقى الاّ من أخذ الله عز وجل عهده لولايتنا، وكتب في قلبه الإيمان وأيّده بروح منه، يا أحمد بن إسحاق هذا أمر من أمر الله، وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في علّيين.(15)
وروي أيضاً عن يعقوب بن منقوش انّه قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام، وهو جالس على دكّان في الدار وعن يمينه بيت عليه ستر مُسبل، فقلت له: يا سيدي من صاحب هذا الأمر؟ فقال: ارفع الستر، فرفعته فخرج إلينا غلام خماسيّ(16) له عشر أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين، أبيض الوجه، درّي المقلتين، شثن الكفين،(17) معطوف الكربتين،(18) في خذه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ أبي محمّد عليه السلام.
ثم قال لي: هذا صاحبكم، ثم وثب فقال له: يا بنيّ ادخل إلى الوقت المعلوم، فدخل البيت وأنا أنظر إليه، ثم قال لي: يا يعقوب انظر من في البيت، فدخلت فما رأيت أحداً.(19)
وروي أيضاً بسند صحيح عن محمّد بن معاوية، ومحمّد بن أيوب، ومحمد بن عثمان العمري انّهم قالوا: عرض علينا أبو محمد الحسن بن عليّ عليه السلام ونحن في منزله وكنّا أربعين رجلاً، فقال هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا.
قالوا: فخرجنا من عنده، فما مضت إلاّ أيّام قلائل حتى مضى أبو محمّد عليه السلام.(20)
وقال أيضاً في حق اليقين: روى الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والطبرسي وغيرهم بأسانيد صحيحة عن محمّد بن إبراهيم بن مهزيار، ورواها البعض عن عليّ بن إبراهيم بن مهزيار انّه قال: حججت عشرين حجة كلاً أطلب به عيان الإمام فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فبينا أنا ليلة نائم في مرقدي إذ رأيت قائلاً يقول: يا عليّ بن إبراهيم قد أذن الله لك في الحج.(21)
فانتبهت وأنا فرح مسرور، فما زلت في الصلاة حتى انفجر عمود الصبح، وفرغت من صلاتي وخرجت أسأل عن الحاجّ، فوجدت فرقة تريد الخروج فبادرت مع أوّل من خرج، فما زلت كذلك حتى خرجوا وخرجت بخروجهم أريد الكوفة.
فلمّا وافيتها نزلت عن راحلتي وسلّمت متاعي إلى ثقات إخواني، وخرجت أسأل عن آل أبي محمّد عليهم السلام، فما زلت كذلك فلم أجد أثراً ولا سمعت خبراً، وخرجت في أوّل من خرج أريد المدينة، فلمّا دخلتها لم أتمالك أن نزلت عن راحلتي، وسلّمت رحلي إلى ثقات إخواني، وخرجت أسال عن الخبر وأقفو الأثر، فلا خبراً سمعت ولا أثراً وجدت.
فلم أزل كذلك إلى أن نفر الناس إلى مكة، وخرجت مع من خرج حتى وافيت مكة، ونزلت فاستوثقت من رحلي، وخرجت أسأل عن آل أبي محمّد عليه السلام، فلم أسمع خبراً ولا وجدت أثراً، فما زلت بين الأياس والرجاء متفكراً في أمري وعائباً على نفسي وقد جنّ الليل.
فقلت: أرقب إلى أن يخلو لي وجه الكعبة لأطوف بها، وأسأل الله عز وجل أن يعرّفني أملي فيها، فبينما أنا كذلك وقد خلا لي وجه الكعبة إذ قمت إلى الطواف فإذا أنا بفتى مليح الوجه، طيب الرائحة، متزر ببردة، متشح بأخرى، وقد عطف بردائه على عاتقه فرعته.
فالتفت إليّ فقال: ممّن الرجل؟ فقلت: من الأهواز، فقال: أتعرف بها ابن الخصيب؟ فقلت: رحمه الله دُعي فأجاب، فقال: رحمه الله لقد كان بالنهار صائماً، وبالليل قائماً، وللقرآن تالياً، ولنا موالياً، فقال: أتعرف بها عليّ بن إبراهيم بن مهزيار؟ فقلت: أنا عليّ، فقال: أهلاً وسهلاً بك يا أبا الحسن أتعرف الصريحين؟ قلت: نعم، قال: ومن هما؟ قلت: محمّد وموسى، ثم قال: ما فعلت العلامة التي بينك وبين أبي محمّد عليه السلام، فقلت: معي، فقال: أخرجها إليّ، فأخرجتها إليه خاتماً حسناً على فصّه (محمّد وعليّ) (وفي رواية: يا الله ويا محمّد ويا عليّ).
فلمّا رأى ذلك بكى ملياً ورنّ شجياً، فأقبل يبكي بكاءاً طويلاً وهو يقول: رحمك الله يا أبا محمّد فلقد كنت إماماً عادلاً، ابن أئمة وأبا إمام، أسكنك الله الفردوس الأعلى مع آبائك عليهم السلام.
ثم قال: يا أبا الحسن صر إلى رحلك وكن على أهبة من كفايتك حتى إذا ذهب الثلث من الليل وبقي الثلثان فالحق بنا، فانّك ترى مناك ان شاء الله.
قال ابن مهزيار: فصرت على رحلي أطيل التفكّر حتى إذا هجم الوقت فقمت إلى رحلي وأصلحته، وقدّمت راحلتي وحملتها وصرت في متنها حتى لحقت الشعب، فإذا أنا بالفتى هناك يقول: أهلاً وسهلاً بك يا أبا الحسن طوبى لك فقد اُذن لك، فسار وسرت بسيره حتّى جاز بي عرفات ومنى، وصرت في أسفل ذروة جبل الطائف.
فقال لي: يا أبا الحسن انزل وخذ في اهبة الصلاة، فنزل ونزلت حتى فرغ وفرغت، ثم قال لي: خذ في صلاة الفجر وأوجز، فأوجزت فيها وسلّم وعفّر وجهه في التراب، ثم ركب وأمرني بالركوب فركبت، ثم سار وسرت بسيره حتى علا الذروة، فقال: المح هل ترى شيئاً؟ فلمحت فرأيت بقعة نزهة كثرة العشب والكلاء.
فقلت: يا سيدي أرى بقعة نزهة كثيرة العشب والكلاء، فقال لي: هل ترى في أعلاها شيئاً؟ فلمحت فإذا أنا بكثيب من رمل فوق بيت من شعر يتوقّد نوراً، فقال لي: هل رأيت شيئاً؟ فقلت: أرى كذا وكذا، فقال لي: يا ابن مهزيار طب نفساً وقرّ عيناً، فانّ هناك أمل كلّ مؤمّل.
ثم قال لي: انطلق بنا، فسار وسرت حتى صار في أسفل الذروة، ثم قال: أنزل فهاهنا يذلّ لك كلّ صعب، فنزل ونزلت حتى قال لي: يا ابن مهزيار خلّ عن زمام الراحلة، فقلت: على من أخلّفها وليس هاهنا أحد؟ فقال: إنّ هذا حرم لا يدخله الاّ وليّ ولا يخرج منه الاّ وليّ، فخلّيت عن الراحلة، فسار وسرت فلمّا دنا من الخباء سبقني وقال لي: قف هناك إلى أن يؤذن لك، فما كان هنيئة فخرج إليّ وهو يقول: طوبى لك قد اُعطيت سؤلك.
قال: فدخلت عليه صلوات الله عليه وهو جالس على نمط عليه نطع أديم أحمر متكئ على مسورة(22) أديم، فسلّمت عليه وردّ عليّ السلام، ولمحته فرأيت وجهه مثل فلقة قمر، لا بالخرق ولا بالبزق، ولا بالطويل الشامخ ولا بالقصير اللاّصق، ممدود القامة، صلت الجبين، أزج الحاجبين، أدعج العينين، أقنى الأنف، سهل الخدّين، على خدّه الأيمن خال، فلمّا أن بصرت به حار عقلي في نعته وصفته.
فقال لي: يا ابن مهزيار كيف خلّفت إخوانك في العراق؟ قلت: في ضنك عيش وهناة، قد تواترت عليهم سيوف بني الشيصبان،(23) فقال: قاتلهم الله أنّى يؤفكون، كأنّي بالقوم قد قتلوا في ديارهم وأخذهم أمر ربّهم ليلاً ونهاراً،(24) (لتملكونهم كما ملكوكم وهم يومئذ أذلاّء).
ثم قال: انّ أبي صلوات الله عليه عهد إليّ أن لا أوطن من الأرض الاّ أخفاها وأقصاها، إسراراً لأمري وتحصيناً لمحلّي من مكائد أهل الضلال والمردة من أحداث الأمم الضوال…
اعلم… انّه قال صلوات الله عليه: يا بنيّ انّ الله جلّ ثناؤه لم يكن ليخلّي أطباق أرضه، وأهل الجدّ في طاعته وعبادته بلا حجة يستعلى بها، وإمام يؤتمّ به ويقتدى بسبل سنّته ومنهاج قصده، وأرجو يا بني أن تكون أحد من أعدّه الله لنشر الحق، وطيّ الباطل، وإعلاء الدين، وإطفاء الضلال، فعليك يا بنيّ بلزوم خوافي الأرض وتتبع أقاصيها، فانّ لكلّ وليّ من أولياء الله عز وجل عدوّاً مقارعاً… فلا يوحشنّك ذلك.
واعلم انّ قلوب أهل الطاعة والاخلاص نُزّعٌ إليك مثل الطير إذا أمّت أوكارها، وهم معشر يطلعون بمخائل الذلة والاستكانة، وهم عند الله بررة أعزاء يبرزون بأنفس مختلّة محتاجة، وهم أهل القناعة والاعتصام، استنبطوا الدين فوازروه على مجاهدة الأضواء…
فاقتبس يا بني نور الصبر على موارد أمورك، تفز بدرك الصنع في مصادرها… فكأنّك يا بني بتأييد نصر الله قد آن، وتيسير الفلح وعلوّ الكعب قد حان، وكأنّك بالرايات الصفر والأعلام البيض تخفق على أثناء أعطافك ما بين الحطيم وزمزم، وكأنّك بترادف البيعة وتصافي الولاء يتناظم عليك تناظم الدرّ في مثاني العقود، وتصافق الأكف على جنبات الحجر الأسود.
تلوذ بفنائك مِن ملأ برأهم الله من طهارة الولاء، ونفاسة التربة، مقدّسة قلوبهم من دنس النفاق، ومهذبة أفئدتهم من رجس الشقاق…
فإذا اشتدّت أركانهم وتقوّمت أعمادهم، قدّت بمكاثفتهم طبقات الأمم إذ تبعتك في ظلال شجرة دوحة بسقت أفنان غصونها على حافات بحيرة الطبريّة، فعندها يتلألأ صبح الحق، وينجلي ظلام الباطل، ويقصم الله بك الطغيان، ويعيد معالم الإيمان…
تهتزّ بك أطراف الدنيا بهجة، وتهزّ بك أغصان العزّ نضرة، وتستقرّ بواني(25) العزّ في قرارها، وتؤوب شوارد الدّين على أوكارها…
ثم قال: ليكن مجلسي هذا عندك مكتوماً الاّ عن أهل الصدق والأخوة الصادقة في الدين.
قال إبراهيم بن مهزيار: فمكثت عنده حيناً أقتبس ما أورى من موضحات الأعلام ونيرات الأحكام… فلمّا أزف ارتحالي وتهيّأ اعتزام نفسي غدوت عليه مودّعاً ومجدداً للعهد، وعرضت عليه مالاً كان معي يزيد على خمسين ألف درهم، وسألته أن يتفضّل بالأمر بقبوله منّى.
فابتسم وقال:… استعن به على مصرفك، فانّ الشقة قذفة، وفلوات الأرض أمامك جمّة…(26) فدعا لي كثيراً وانصرفت إلى وطني.
والأخبار في هذا الباب كثيرة.
الهوامش
(14) راجع حق اليقين للمجلسي: 311. (15) كمال الدين 2: 384/ ح 1/ باب 38، عنه البحار 52: 23/ ح 16. (16) خماسي: طوله خمسة أشبار. (17) شثن الكفين: خشن الكفين. (18) معطوف الكربتين: منحني الكتفين. (19) كمال الدين 2: 407/ باب 38/ ح 2، عنه البحار 52: 25/ ح 17. (20) كمال الدين 2: 435/ باب 43/ ح 2، عنه البحار 52: 25/ ح 19. (21) لم تكن هذه العبارة في كمال الدين، وأخذناها من الغيبة للطوسي: 263/ ح 228. (22) المِسوَرة: متكأ من أدَم، وسميت مسورة لعلوها وارتفاعها. (23) وفي المتن بني العباس. (24) كمال الدين 2: 465/ ح 23. (25) البواني: في الأصل أضلاع الصدر، والبوانُ عمود من أعمدة الخِباء. (26) البحار 52: 34، ضمن حديث 28.